انتعاش الدولار يحوّل الرهانات ضده إلى «صفقة مؤلمة» للمستثمرين العالميين
ارتفاع الدولار إلى أعلى مستوياته في شهرين قلب أحد أشهر رهانات هذا العام رأساً على عقب: البيع على المكشوف للعملة الأميركية. فرغم الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة وتوقعات الأسواق بخفض الفائدة عدة مرات، تعزز الدولار مدعوماً بضعف العملات المنافسة، وصلابة عوائد السندات، وتزايد الإقبال على الملاذات الآمنة.

مؤشر الدولار ارتفع بنحو 2% منذ منتصف العام.
صناديق التحوط تحولت إلى شراء خيارات صعودية على الدولار أمام عملات مجموعة العشر.
قوة الدولار تضغط على الأسواق الناشئة والمصدّرين.
العملات المنافسة تضعف وسط اضطرابات سياسية في اليابان وضغوط اقتصادية أوروبية.
قوة الدولار تفاجئ الأسواق العالمية
خلال معظم فترات هذا العام، كان الرهان على ضعف الدولار يُعد “صفقة إجماع” بين المستثمرين. فقد توقع المحللون أن يؤدي تباطؤ التضخم الأميركي، وتزايد رهانات خفض الفائدة من الفيدرالي، وتعافي الاقتصادات العالمية، إلى تراجع العملة الخضراء. لكن ما حدث كان العكس تماماً.
مؤشر الدولار ارتفع بنحو 2% منذ يوليو، مدعوماً بفارق النمو والعوائد لصالح الولايات المتحدة، ما أبقى التدفقات المالية متركزة في الأصول الأميركية.

هذا التحول المفاجئ أجبر المستثمرين على إعادة النظر في افتراضاتهم بشأن السياسة النقدية الأميركية والدور البنيوي للدولار في النظام المالي العالمي. فرغم الضجيج السياسي في واشنطن، بما في ذلك الإغلاق الحكومي، لا تزال العملة الأميركية الملاذ الآمن الأول عالمياً — وهو وضع يتعزز كلما ازدادت حالة عدم اليقين في الخارج.
تحولات المعنويات وضغوط الإغلاق القصير
في الأسابيع الأخيرة، اضطر المتداولون إلى تغطية رهاناتهم ضد الدولار مع تراجع اليورو والين بشكل حاد. بيانات المشتقات تشير إلى أن صناديق التحوط ومديري الأصول باتوا يدفعون علاوات مرتفعة لبناء مراكز صعودية على الدولار — في إشارة واضحة إلى تغير قناعات السوق.
الفارق بين أسعار شراء وبيع الخيارات على أزواج العملات الرئيسية تحوّل إلى أكثر قراءة داعمة للدولار منذ أبريل، ما يعكس انقلاباً كاملاً في التمركزات.
الألم الأكبر ظهر لدى الصناديق الكلية (Macro Funds) التي بنت مراكز بيع كبيرة في وقت سابق من العام على أساس أن خفض الفائدة سيضعف الدولار. لكن مع بقاء التضخم مرتفعاً وصلابة سوق العمل، تراجع احتمال التيسير السريع، ما أشعل «صفقة الألم» الكلاسيكية: حين تنقلب الرهانات الجماعية لتصبح مكلفة مع تغير زخم الأسعار.

صلابة الاقتصاد الأميركي تعمّق الفجوة
قوة الدولار لا تحدث في فراغ. تصريحات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي الأخيرة عكست حذراً تجاه خفض الفائدة بسرعة، مؤكدة متانة الاقتصاد رغم تشديد السياسة النقدية. هذه الرسائل، إلى جانب تباطؤ الزخم في أوروبا واليابان، أعادت تنشيط التدفقات نحو الأصول الأميركية — من السندات إلى أسهم الشركات الكبرى.
في المقابل، يواجه اليورو والين رياحاً معاكسة. حالة عدم اليقين السياسي في فرنسا تضغط على العملة الأوروبية الموحدة، فيما أدت التحولات القيادية في اليابان وحديث الحكومة عن تحفيز جديد إلى دفع الين نحو أضعف مستوياته منذ فبراير. هذه الفجوة في التوقعات تعزز الميزة النسبية للدولار: فهو لا يبدو قوياً بذاته بقدر ما هو “الأقل ضعفاً” بين العملات الكبرى.
ارتدادات أوسع عبر الأسواق العالمية
الدولار القوي له تبعات عالمية واسعة. بالنسبة للدول المستوردة للسلع الأساسية، ارتفاع الأسعار المقومة بالدولار يزيد الضغوط التضخمية ويقيد مرونة السياسة النقدية. أما في الأسواق الناشئة، فإن ارتفاع الدولار يشد أوضاع التمويل ويضخم أعباء الديون المقومة بالعملات الأجنبية.
الحركة تؤثر أيضاً على تدفقات المحافظ الاستثمارية. أسواق الأسهم والسندات التي استفادت سابقاً من ضعف الدولار — خصوصاً في آسيا وأمريكا اللاتينية — تواجه الآن موجات خروج رؤوس الأموال. في المقابل، يشعر المصدّرون الأميركيون بضغط العملة القوية، حتى مع عودة المستثمرين إلى تفضيل الأصول الدفاعية داخل الولايات المتحدة.
إلى أين يتجه الدولار؟ بين السياسة والتمركزات
في النهاية، سيعتمد مسار الدولار على قرارات الفيدرالي المقبلة. الأسواق لا تزال تسعّر احتمال خفضين للفائدة بواقع 25 نقطة أساس لكل منهما قبل نهاية العام، لكن محاضر الاجتماعات الأخيرة تشير إلى تردد واضح وسط إشارات متباينة من التضخم وسوق العمل. وإذا بقيت البيانات الاقتصادية صلبة، قد يُبطئ الفيدرالي وتيرة التيسير النقدي — وهو سيناريو قد يمدد قوة الدولار إلى عام 2026.
مع ذلك، ليس الجميع مقتنعاً بأن هذا الصعود سيستمر. بعض المحللين يرون أن تباطؤ البيانات الأميركية لاحقاً وعودة التوترات المالية قد يعيدان سيناريو «البيع على المكشوف للدولار». وحتى يحدث ذلك، يواجه متداولو العملات واقعاً صعباً: الرهان الكبير على ضعف الدولار تحوّل إلى اختبار ضغط عالمي لكل من راهن على تراجع القوة الأميركية.
